الليبرالية المتوحشة اليوم
كألدّ عدوّ للديمقراطية
إذا انطلقنا من فرضية محاولة
الاستبداد العالمي والمحلّي التأقلم بوضع قناع المؤسسات الديمقراطية على نواة
استبدادية صلبة قوامها سلطة رأس المال، فلا بدّ من الغوص في الايديولوجيا التي ترتهن
اليوم كل مشروع ديمقراطي جدّي
،سواء كانت ذلك على مستوى العالم أو على مستوى الوطن العربي.
كم كان من الأنسب لو أن
اللغة العربية ، التي سمت الاشتراكية اشتراكية وليس ''سوسياليزم '' أطلقت على الليبرالية اسم ''الحرياتية''.
فليس بديهيا لمن لا يعرف اللغات الأوروبية أن الكلمة مشتقّة من
الحرية في اللغة الفرنسية والإنجليزية ، أنها تعني إذن فكر ومشروع الحرية مثلما
تعني الاشتراكية فكر ومشروع العدالة. هذا الفكر والمشروع هو عصارة أفكار وأحلام وآمال مفكرين عظام، كانوا أيضا من آباء الديمقراطية،
منهم دافيد هيوم وبنجامين فرانكلن
وتوماس باين و الكسيس توكفيل
وشارل كومت وجون ستيوارت ميل وأدم سميث وليونارد ريد وغيرهم. السؤال كيف أصبحت ايديولوجيا الحرية اليوم ألدّ عدوّ
للتحرّر ؟ كيف يمكن لنظرية ولدت من نفس الرحم الذي أولد الديمقراطية أن
تشكّل اليوم اكبر تهديد لها ؟
لنعد إلى الأفكار المركزية التي تسندها
وهي بكثير من التلخيص:
-أن الليبرالية ليست نظرية اقتصادية أو سياسية وإنما
حركة فكرية تهدف إلى جعل الحرية قيم القيم،
ذلك
لأنه لو تركت لها كل الإمكانيات، لوجد الإنسان
توازنه بصفة شبه تلقائية.
-إن
هذا التوازن ناجم عن كون الآدميين مرتبطين دوما بعلاقة تبادل نسميها السوق في
الميدان الاقتصادي. ومن قوانين السوق إنك إذا تركت شخصين في وضع تبادل حرّ،
فإن كل واحد سيختار تلقائيا أحسن حلّ بالنسبة إليه ومن ضمنه التفاهم مع الآخر على ثمن
مقبول من الطرفين، فتكون المقايضة عادلة
والعملية مربحة لكليهما.
-أن
تدخّل طرف ثالث -مثل الدولة - في شكل معونات لهذا أو ضرائب ضدّ ذلك، يظلم و يعاقب
صاحب المبادرة. لذلك يجب أن يكون دورها جدّ محدود ومقتصرا على منع من يريد تغيير قواعد اللعبة والتصدي
للمبادرة. إن المهامّ
الشرعية الوحيدة للدولة هي فرض الاستقرار والنظام عبر وظائف الشرطي
والجندي والقاضي. فالدولة في المجال
الاقتصادي والاجتماعي
ليست أكثر من جهاز طفيلي يقبض غاليا ثمن وجوده. هي لا تخلق الثروات وإنما تبذرها. وعندما
يدّعي جهاز من أجهزتها القيام بمهمة التضامن الاجتماعي مثلا، فإنّه ينزع هذه الوظيفة عن المجتمع الأولى
بتحقيقها لأنّه أنجع في ذلك من بيروقراطية الحكومة.
لنذكّر عرضا أن
الدولة الأمريكية لا تكتفي بدور الشرطي والقاضي والجندي تاركة للسوق حرية البحث عن
نقطة التوازن الاقتصادي والاجتماعي. هي تتدخل كأيّ دولة متخلّفة لفرض الضرائب على البضاعة الأجنبية
وإغراق فلاحيها بالمعونات ليغرقوا أسواق العالم الثالث بالموادّ الرخيصة
متسبّبين في إفلاس الملايين من الفلاحين الفقراء، في الوقت الذي تشجب فيه هذه
الضرائب والمعونات عند الآخرين عندما
تتنافى مع مصالح من تسهر على مصالحهم.
معنى هذا أننا يجب أن
نأخذ أقوال منظرّي الليبرالية كما نأخذ أقوال كل المنتمين لهذه الايدولوجيا أو
تلك، أي بكثير من الحذر متذكّرين أن الكلام العقائدي دعاية فيها الحق و الباطل.... أنها تغطية نظرية على
ممارسات قد تكون على الطرف النقيض.
السؤال العامّ الذي يجب
أن نواجه به أنفسنا : كيف نتعامل مع هذه المقولات (أو مع
أي مقولة ايديولوجية أخرى) بحيث
لا نخدع ولا نخدع (بضمّ النون). يتطلب هذا
قدرا كبيرا من نزاهة فكرية
ترفض أن ترى القشة في عين
الخصم ولا ترى الجذع الذي في عيننا. يتطلب
الأمر الالتجاء إلى التقييم الموضوعي الذي يستعمل مؤشرات علمية.
ومن
نافلة القول أننا لا نستطيع أن نذهب بعيدا في اتجاه موازاة التفكير العلمي، لأن تقييمنا يتعامل مع ظواهر اجتماعية وسياسية بالغة
التعقيد ولا تقاس بالكمّ. لنحاول مع هذا تكوين مقياس نقيّم به جدّية ما يعرض علينا
من بضاعة ايديولوجية
منطلقين من بديهيات يتفق عليها
الجميع ومن أهمّها :
- إنّ كلّ ظاهرة من عالم
الفكر أو المادّة لا
تتواصل عبر الزمن إلاّ وكان
لها بالضرورة فائدة ما تتبلور عبر إنجازات
ما. حتّى الموت من هذا المنظور له فوائد. فلولاه لما وجد الرضّع مكانا لهم في العالم ولما ارتاح الشيوخ من هموم الحياة . لنسمّ ( إ) مؤشّر الإنجازات هذه.
- إنّ قوانين هذا العالم دفّعت كل إنجاز ثمنه
فجعلت أنجع المحركات تفقد جزءا من طاقتها بالحرارة الضائعة، وجعلت تمديد العمر
يزيد في الأمراض المزمنة، وجعلت انتصار
هذا يفرز هزيمة ذاك. هكذا رأينا الاشتراكية تنتج
''النومنكلاتورا'' والمسيحية التي تطالب بإدارة الخدّ
الأيمن لمن صفعك على الخدّ الأيمن تخترع
محاكم التفتيش وحرق الناسّ والحروب الصليبية.
لنسمّ (س) مؤشّر
السلبيات التي تظهر إبان عمل الظاهرة المدروسة.
- ما أن تظهر هذه السلبيات حتى تبرز
كلّ أشكال مقاومتها لتتصاعد حدّتها بتصاعد
حدّة السلبيات. لنسمّ (
م) مؤشّر المقاومة التي يبديها الواقع
لتصحيحها. إن ما يشهده العالم اليوم من ردود فعل عنيفة ضدّ العولمة
هو اصدق تعبير عن هذه الظاهرة الطبيعية.
لا بدّ من
التركيز هنا على أنّه من واجب كلّ فكر نزيه أن يأخذها بعين الاعتبار كردّة فعل
شرعية على السلبيات. فلا حقّ لأحد أن يصرخ على طريقة
محمد عبده ''ما أجمل الليبرالية وما أقبح الليبراليون''. على العكس من هذا عليه
استنتاج ما يجب من إصلاحات، علما وأن كل
إصلاح سيولّد وضعا جديدا يفرز
بدوره سلبيات فمقاومة،
وهكذا إلى أن تستعصي الأيدولوجيا على كلّ إصلاح فيتمّ استبدالها نهائيا بأخرى تخضع لنفس
القانون السرمدي أنه لا خلود لشيء أو أحد.
لنطبّق مقياس إ-س-م على
الليبرالية علما وأنه أداة قراءة لأي ايدولوجيا أو سياسة وحتى أبسط خيار في الحياة الشخصية.
أمّا بخصوص الإنجازات
فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ ''الحرّياتية''
أطلقت قوى جبارة
داخل المجتمعات الغربية وأنّها لعبت دورا أساسيا في خلق الثروات المادية والفكرية
والفنية. كم ننسى نحن العرب أن التخلّف المادي الذي
تعرفه مجتمعاتنا المستعبدة ليس إلا الوجه الظاهر للقحط الفكري والفني والعلمي
الناجم عن نفس السبب: تكبيل هذه الطاقة الجبارة. ومن
الإنجازات أيضا خلق مجتمع ديناميكي يعوّل فيه الأفراد على أنفسهم فتسود روح
المنافسة والتحدّي وكلّها من عوامل التقدّم المطّرد في كلّ الميادين.
لكن ماذا عن السلبيات خاصة في علاقتها بالديمقراطية ؟
*
إنها تتلخص
في أربع نقط
بلورتها التجربة التاريخية ونستقيها منها:
1-'' تسويق'' آليات
الديمقراطية
لقد فرضت الليبرالية
على الديمقراطية أن تكيّف
آلياتها لتتطابق مع آلياتها هي،
وكأنّ ساحة السياسة مجرّد
سوق تباع فيها بضائع من نوع خاصّ ، لكنها في آخر المطاف خاضعة لنفس القوانين
التي تتحكّم في تبادل الشاي والسكّر
والسيّارات. الأخطر من هذا تبعية السياسي
للاقتصادي أي لرأس المال. لنتذكّر هنا أن
آباء الفكر الديمقراطي مثل لوك ومونتسكيو و روسو جعلوا من الفصل بين السلطات ضمان عدم تجدد الاستبداد
وشرطه الأوّل. إلا أن ما تفصله
الدولة اللبرالية هو السلطة
السياسية على صعيد أفراد ومؤسسات، لكنها
لا تفصل بين السلطة السياسية والاقتصادية في مستوى طبقة تستعمل المؤسسات
السياسية لضمان مصالحها. هكذا تستطيع
الليبرالية أن
تلتفّ حول أهمّ ركن في الديمقراطية كما حلمها مفكرون لم يكن لهم أدنى فكرة عن
القوة المالية الرهيبة التي ستمتلكها هذه
الأرستقراطيات وكيف ستوظفها للحصول على
السلطة السياسية أو توجيهها عن بعد. يعطي الشيوخ الذين يستجوبون أمام الكاميرا
مدير وكالة المخابرات المركزية ووزير الخارجية الانطباع بوجود ديمقراطية قوية
يراقب فيها التشريعي كلّ دواليب التنفيذي. لكنهم أعضاء نفس نادي الأثرياء أي
الأرستقراطيات الفاعلة
التي صادرت الديمقراطية لمصلحتها.
لقد
أصبح معروفا ما للشركات البترولية من تأثير على سياسة الدولة الأمريكية وكيف
تستطيع بتمويل الحملات الانتخابية لهذا المترشح أو ذاك
شراء بوليصة تأمين على المستقبل. في أكتوبر 2003 أصدرت
هيئة محايدة تدعى''اللجنة الأمريكية لمراقبة النزاهة''تقريرها السنوي الذي فضح
ظاهرة كنّا نشكّ في وجودها دون قدرة إثباتها. لقد أبرز التقرير أن جلّ الشركات الأمريكية التي فازت بعقود
ما سمّي بإعمار العراق الذي خربته الإدارة الأمريكية
بمدافعها وحصارها اللا
إنساني
لعشرية كاملة، كانت بالصدفة من أكبر المساهمين في تغطية الحملة
الانتخابية للرئيس بوش. وإن لم يكن هذا الفساد بعينه وفي
أعلى مستويات، فما الفساد يا ترى؟ لكن من يعرف أن حماية
مثل هؤلاء السياسيين امتدت إلى شركة من كبرى الشركات الصيدلية في العالم وهي''ايلاي ليلي'' التي استطاعت أن تسمّم ملايين الأطفال بلقاحات فاسدة لا زالت تسوقها في العالم الثالث ولم تستطع
العائلات المنكوبة مقاضاتها لأن المشرّعين الأمريكيين المحتاجين هم
أيضا للدعم المالي لحملاتهم الانتخابية اصدروا قوانين تمنع
تتبع الشركة بحجة ....المصلحة الوطنية. من
لا يعلم اليوم أن بوش الأب وبوش الابن ونائبه شيني
وما لا يحصى من كبار الموظّفين وقدامى السفراء، كانوا ولا يزالوا في خدمة
رأس المال هذا عبر ما يملكون وما يخدمون
من الشركات العملاقة ....أنّ
المكلفين بجمع أموال إعادة انتخاب
الرئيس كلينتون كانوا يبيعون مقابل
مئات الآلاف من الدولارات لقاءا مع الرئيس وليلة في سرير لينكولن
بالبيت الأبيض وسفرة على متن الطائرة الرئاسية .....إن
المرشحين لأعلى مراكز القرار هم دوما أثرياء في مواجهة أثرياء أو مدعومين منهم. هذا
ما يفسّر التركيبة الطبقية للكونجرس الأمريكي، فنسبة المليونارات فيه خمسين مرّة أضعاف
النسبة في الجمهرة العامّة للشعب الأمريكي.
كيف
استطاع شعب فيه أربعين مليون فقير أن يبعث
بهذا العدد الرهيب من الأثرياء لتمثيله أو أن يوصل إلى أعلى مراكز القرار أشخاص
مثل بوش ورامسفيلد وشيني المعروفين بثرائهم الفاحش
وعلاقاتهم الوثيقة بالشركات البترولية الكبرى؟
والقاعدة أنّ السلطة السياسية في إفريقيا وبقية
المناطق المتخلفة، هي المدخل للسلطة الاقتصادية أي لوضع اليد على المال
العمومي، بينما تشكّل السلطة الاقتصادية
في أمريكا المدخل للسلطة السياسية التي هي بدورها المدخل للسلطة الاقتصادية.
إنّ المفارقة في كلّ العملية تتمثّل في أن أحوج الناس
للمؤسسة وهم الفقراء، يساهمون من حيث
يدرون ولا يدرون في ملئها بمن هم ألدّ
أعداء مصالحهم. إن أنهار الأموال التي
تصرف في هذه المهرجانات مخصصة في جزء كبير لربح أصواتهم بكلّ الوسائل ومنها التضليل حتى تختلط
السبل ويقع الجمع في اللاشعور بين مصالح لا تجتمع مثلما
لا يجتمع الماء والنار.
لكن المال لا يحيد بالعملية الانتخابية وحدها عن أهدافها
الأصلية وإنّما بآليات أخرى ضرورية لسلامة
النظام الديمقراطي.إنّ الصحافة هي بصفة متعاظمة جزء من استراتيجية غزو المؤسسات الديمقراطية
بهذا المال، حيث أنّ حرّية رأي جريدة مغمورة يكتب فيها بعض المعارضين للنظام ليست
بوزن حرّية الرأي عند من يملك قنوات تلفزيونية يسخّرها في خدمة مرشّح معّين.إن
بلورة رأي عام ّ والتلاعب به وتوجيهه هي اليوم بالأساس
قضية إمكانيات مادّية والأقوى فيها هو الأغنى. حقّا هناك
حدود للعملية لأن الشعوب ليست بالغباء الذي يتصوّره بعض الإعلاميين، لكن كم من وقت ومن طاقة ومن خسارة قبل أن ينكشف
التضليل؟
وبخصوص
حرية التنظم أي مقارنة ممكنة بين حظوظ حزب مدعوم بالمليارات وآخر لا يملك
الحدّ الأدنى من الإمكانيات لإيصال صوته ؟ هذا ما دفع السينمائي
والناقد الأمريكي'' مايكل مور'' للقول بأن
عشرة في المائة
من الأمريكيين لهما حزبان وتسعين في المائة ليس لهم ولا
حزب واحد. هكذا ترى أباطرة المؤسسات المالية الضخمة يقودون مقاليد الأمور في الميادين
الحساسة على امتداد العقود وترى مقاولي السياسة ومهرجيها
الصغار يتخاصمون لخدمتهم على كراسي لنيابات قصيرة المدى. يظهر
التدقيق في الظاهرة إذن
العيب الهيكلي الخطير في الديمقراطية التمثيلية : سهولة التحكّم فيها وتوجيها
بالمال، هذا الوقود الذي يجب ضخّه في دواليب السياسية في
الدولة الليبرالية ودونه لا تستطيع أيّ
آلة من آليات النظام أن تعمل أو بصفة أدقّ أن تعمل بالكيفية التي نعرفها.
ولقائل أن يقول
أنّ الحلّ بسيط بمنع التمويل الخاصّ وقصر التبرّعات على حدّ معين وتمويل الحملات
الانتخابية من المال العامّ. إن هذا ما تسعى إليه كثير
من البلدان الديمقراطية التي لا تقبل السيرك الأمريكي. لكن حتّى لو سلّمنا بعدم وقوع الغشّ
عبر التمويل السرّي، فإن هذا لا يلغي بقية الإشكالية أي قولبة آليات
الديمقراطية وفق نموذج غير منظور للسوق.
ليس من باب الصدفة أن يواجه الناخب البرامج السياسية كما يواجه
البضائع المعروضة عليه في سوق الفواكه واللحوم والأسماك. لنتذكّر أن أي واحد منّا
عندما يذهب لشراء السمك لا يسلم أحيانا من الغشّ رغم تجربته الطويلة في التعرّف
على الطازج منه وحرصه
على المقارنة المطوّلة بين أسعار الباعة .
افرض الآن أنّك أمام بائعين يتصايحان بخصوص جودة هذا
الحاسوب أو ذاك. إنّ إمكانيات الخطأ في اختيار الأفضل ترتفع بصفة كبيرة لأنّك لست بالضرورة مهندسا
مختصّا في الإعلامية. يتعقّد الخيار بصفة مطّردة وأنت تتردّد في التوجّه لهذه المصحّة أو تلك لعملية
جراحية. أيّ قدرة لك على الخيار السليم وأنت لا تعرف
حالة الأجهزة ومعنويات الممرضات وخبرة الجرّاحين ؟ كيف تستطيع التقرير بأن الخدمات
التي قدّمت لك تستأهل الثمن المدفوع ؟ والآن تصوّر
ناخبنا المسكين وهو
مطالب بالخيار بين بائعين، كل واحد يريد
إقناعه ب''شراء'' برنامجه حول تخفيض البطالة والعجز في ميزانية وميزانية الدفاع
والسياسة الفلاحية والعلاقات مع العالم الخارجي
والطاقات المتجدّدة ومحاربة الجريمة وألف موضوع تقني آخر. بداهة لا يمكن أن يكون
رميه في الصندوق لهذه البطاقة أو تلك خيارا حرّا أي مبنيا على معرفة ووعي كما يمكن أن
يقتنع هو نفسه بذلك . إنّها مقامرة بأتمّ معنى الكلمة حظوظ الفشل فيها أكبر بكثير من حظوظ النجاح.
الإشكال هو أن رهان هذه المقامرة
قد يكون مصير شعب وحتى مصير العالم.
هكذا خرّب منطق
السوق آليات الديمقراطية عندما سمح للأرستقراطيات المخفية بالتمكن من مقاليدها عبر
المال وفرض رؤيتها للعالم حتى على طريقة الانتخاب وخرّب صورتها عندما ضرب هيبة السياسة
والسياسيين بالإشهار الرخيص.
2-زعزعة
العقد الديمقراطي.
إن
خلق الثروات شيء وتوزيعها العادل شيء آخر. وإذا أثبتت
الليبرالية حقيقة لا تجادل فهي فائق قدرتها على الخلق وفائق عجزها عن توزيعها
العادل. هذا ما
أدّى إلى خلق مجتمعات غير سوية تتكدّس فيها جلّ الثروة بين أيادي
قليلة ويترك الفتات للبقية. إن اقتصاد السوق،
الذي افترض آباء الليبرالية عن سذاجة أنه عامل توازن، هو اليوم أكبر عامل اختلال
في حياة العالم. لقد أصبحت هذه الأخيرة، نظرا لتوسعها من
المركز الغربي إلى العالم عبر ما سمّي العولمة، مرادفا لتنمية الفقر الفاحش بجانب الثراء المشين
وخلق جيوب مطردة الاتساع من المهمّشين والبطالين داخل كل مجتمع
مما يؤدّي إجباريا إلى تفكّك الأسر
وتفشّي الجريمة والدعارة والإدمان على
المخدرات وانتشار الأمراض.
إن
مجتمعا يعيش لا توازنا متزايدا وهوّة تتسع يوما بعد يوم بين من يملكون ومن لا يملكون ، هو مجتمع على فوهة بركان. إن
مثل هذا الوضع، لا يمكن إلا أن يثير ردّ فعل عنيف طال الزمان أو قصر. وفي مثل هذا
المجتمع التي تعركه قوى القمع وقوى التمرّد لا يمكن للحلول الوسطية والسلمية التي
تشكل لبّ الديمقراطية أن تكون بديلا للعنف
وحتى إن انتصبت، فلمدّة منتهية
بالضرورة عندما تقتنع الأغلبية بأنه لا حلّ أمامها سوى الثورة. في
الماضي كانت الليبرالية هي آلية خلق الثورة الشيوعية وما زال أمامها الكثير من
الثورات تغذيها وتخلقها في المستقبل القريب.
3-إضعاف سلطة الدولة
الديمقراطية.
لقد نجحت هذه الدولة،
خاصة في البلدان الاسكندنافية، في الاضطلاع بالوظيفة
الأهمّ لكلّ دولة أي
توفير الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وحتى العمل، كلّ هذا حتى تضمن تواصل انخراط
الأغلبية في التعامل السلمي لحلّ المشاكل الاجتماعية.
إن هذه المهمّة هي التي
تتعرّض اليوم للخطر في كلّ مكان لأن انهيار الحدود يمكّن رأس المال الوطني والدولي
من ممارسة الابتزاز تجاه أيّ دولة تريد حماية الحقوق الاجتماعية لمواطنيها. ثمة
دوما بلد فقير يمكن أن يهرع إليه رأس المال وبلد أفقر منه إن أرادت حكومته
الديمقراطية الحفاظ على الحدّ الأدنى من الخدمات الاجتماعية أو حقوق الشغالين في
الإضراب و الأجر العادل. وفي هذا المستوى أصبحت الحكومات الديمقراطية في البلدان
الفقيرة والغنية في نفس الوضعية، فإمّا قبول الابتزاز بما يعنيه الأمر من ضرب
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للناس أو مواجهة وضع أصعب ناتج عن هروب رأس المال لا يجري إلاّ وراء
الربح.
إنّ الخلل الأساسي في الليبرالية قلبها للأولويات
الطبيعية. ففي كل مجتمع سويّ يجب أن تكون أداة الإنتاج
في خدمة حاجات الناس من أكل وكساء وعمل الخ، أما ما ينتج من ربح فهو مكافأة
اجتماعية للمجتهد والمبدع. لكن عندما يصبح الربح هو
الهدف والحقوق الاقتصادية والاجتماعية مجرّد توابع ثانوية يمكن التضحية بها إذا
تضاربت مع الربح، فإننا ندخل في منطق مريض
لا يمكن أن يتمخّض عنه إلا مجتمع بل وعالم مريض. هذا الانقلاب في الأولويات هو الذي يجعل اليوم الليبرالية بعبعا مخيفا يدمّر
البيئة والشعوب والعائلة من أجل تكديس الأرباح.
إنّ وصف الليبرالية بالمتوحشة ليس من باب
البلاغة الجوفاء وإنما وصف فرضته عليّ متابعتي الدقيقة لعلاقة الشركات
العملاقة بمشاكل الصحّة التي أدرّسها
بالجامعة. فلا أشرس من الشركات الصيدلية
الأمريكية في حربها المدعومة بالإدارة الأمريكية ضدّ توفّر الدواء بأرخص الأثمان في
العالم. هي ترفض للبلدان الفقيرة حق تصنيع الأدوية الضرورية التي تمتلك براءتها بحجة حماية الملكية الفكرية وتقيم الدنيا وتقعدها على
كلّ دولة ''مارقة'' رغم الأرباح الخيالية التي تحققها والمونوبول
الواسع الذي تتمتع به. هكذا تعرف أفريقيا اليوم 28 مليون مريض بنقص المناعة
المكتسب لا يحصل منهم على العلاج إلا واحد
بالمائة. هذه السياسية المجرمة، التي تحرم حتى الفقراء في أمريكا من الدواء
لغلائه الفاحش ،
أثارت سخط المنظمة العالمية للصحة ( بيان ماي
2001) ولجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ( بيان نوفمبر
2001) وصراع رهيب في ساحة المنظمة الدولية للتجارة. إنها الحرب بين حق الصحة وحق الربح الحرام. ثمة اليوم مجازر صامتة
لملايين الأطفال في إفريقيا
تجد ورائها أكلة لحوم البشر بالسموكنج ويحدثونك عن دور المنافسة في توفير أرخص السلع
لمن لا يمتلكون ما يسدّون به الرمق
4-تلويث
قيم الديمقراطية : ما من شكّ أنّ الحرية من أهمّ القيم
بالنسبة لكل الديمقراطيين ، لكن استعمالها من قبل الليبراليين كتبرير لكل الموبقات
التي تتمخض عنها العولمة المتوحشة، يلقي بضلاله على المفهوم بأسره بل قد يبغضّه للناس.
أنّ
الحرية هي قدرتنا النظرية في اختيار الطريق الذي نظنّ أنه الأقصر والأسهل
والأضمن لتحقيق مصالحنا وصيانة
كرامتنا وذلك بدون ضغط أو إكراه. لكن أغلب
الظروف البيولوجية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيش
داخلها تتصرّف وكأن لا همّ لها سوى الحدّ
من قدرتنا هذه. مما يعني أن مشكلتنا ليست الحرية بما هي
قيمة مطلقة توجد أو لا توجد وإنما مع حالتها العملية أي التحرّر. هذا التحرّر هو جهد كلّ لحظة لتوسيع
دائرة الخيار في وجه كل المعوقات . لكن أهم المعوقات في وجه تحرّر الأغلبية
الساحقة للبشرية اليوم هو الحرية كما يفهمها الليبراليون.
لقد
أظهرت التجربة التاريخية بما فيه الكفاية أنها كانت ولا تزال حرّية الذئب في المدجنة والتغليف النظري للداروينية
الاجتماعية بمبدأها الأزلي : البقاء للأقوى والأقوى هنا
هو الأغنى.
*
لا
غرابة في مثل هذا الوضع
أن تكون المقاومة بشراسة الهجوم على الحريات و الحقوق المشروعة
لأغلبية البشرية. لقد تمثّلت هذه المقاومة في المظاهرات الشعبية الصاخبة التي انطلق مسلسلها منذ نهاية القرن
الماضي من مدينة سياتل في الولايات
المتحدة والتي انتشرت كالنار في الهشيم إلى
كلّ مدينة في العالم شهدت فيها لقاء أساقفة الليبرالية. لقد تمثّلت أيضا في إعادة تجنيد النقابات التي قيل أن عهدها انتهى
وفي بروز عدد هائل من التنظيمات المدنية لوقف الدّاء وفي ما لا يحصى من كتابات النقد والاحتجاج ومنها
هذا الكتاب.
القاعدة أن بقدر ما تتشنّج الشعوب في مقاومتها للظاهرة بقدر ما
تتشنّج الليبرالية في الدفاع عن مصالحها غير المشروعة.
ها هي تمرّ اليوم في حربها الخارجية ضدّ كل من يقف في وجه مصالحها حتى إلى خصخصة الأمن ( 1).
من كان يتصوّر إمكانية ظهور شركات أمريكية تعدّ بالمئات ويديرها جنرالات
أمريكيون متقاعدون، تملك أسلحة من نوع قاذفات القنابل ب2 وأسلحة ثقيلة
وجيوش خاصة من المرتزقة لحماية مصالح الشركات العملاقة وعملائها المحليين. وبالمناسبة نرجو من منظرّي الليبرالية إفهامنا أين هي آليات
السوق التي ستجعل خدمات هذه الشركات توفّر الأمن والاستقرار بأبخس
ثمن ممكن ولمصلحة أي مستهلك ؟ كيف سيحصل
التنافس الشريف والنزيه بينها لجني أرباح لا بدّ أن يكون لها علاقة ما بثمن الدم ؟
ينذر ظهور هذه الشركات بأن
الليبرالية دخلت في أخطر مراحل تطور كل ايدولوجيا أي الدفاع عن الذات
بالعنف الأقصى وعدم تكّلف التقية والتمويه
.
تبدأ الإيديولوجيا كعقيدة خصبة ومنظومة فكرية وسياسية تريد
التحرّر من نظام فاسد متقدّم عليها. ثم تصبح بمرّ الزمان
وبالتمكن السياسي أداة حكم تحقّق جزءا من برنامجها الثوري وتقعدها حدودها وتعقيد
العالم عن تحقيق الباقي. ثم يحصل نوع من التوازن بين الايجابيات والسلبيات تمكّن
من إطالة عمرها أحقابا
وقرونا. تأتي المرحلة النهائية التي يتعمق فيها فشل المشروع وتغلّب السلبيات على الإيجابيات وتصاعد
المقاومة في ثوب ظهور عقائد أخرى تدفع
قدما المشروع التحرّري الإنساني. تتشنّج آنذاك إرادة السيطرة والبقاء على
كل باقي مكونات الأيدولوجيا فتغدو عنفا أعمى بغطاء نظري وتبرير بالغ
الهشاشة لا يقنع إلا من أصرّ على الصمم والعمى. كلّ هذا في خدمة طائفة تضيق رقعتها باطّراد أمام
تكاثر المتضرّرين والمطالبين بالتغيير الجذري.
إنها ظاهرة أزلية
عبّر عنها توماس مازاريك قائلا:" تسقط الشعوب
بسقوط المثل العليا التي نهضت باسمها''. نحن
بصدد معايشة هذه الفترة البالغة الخطورة
في حياة الليبرالية.
كما
مثّل المرحوم الاتحاد
السوفييتي ذروة النظام الاستبدادي
الشيوعي فإنّه يمكن اعتبار الولايات
المتحدة الأمريكية هي ذروة النظام
الاستبدادي الليبرالي، وقد تنتهي معه بنفس الكيفية عندما يستنفذ النظام كل طاقاته وعيوبه مثلما
انتهى الاتحاد السوفييتي عندما أوصله نظامه السياسي إلى الهاوية بعد أن استنفذ كل
طاقته وتمخّض عن كلّ موبقاته.
لقد أصبح واضحا اليوم أنه إذا كانت الشيوعية
والفاشية ألدّ أعداء الديمقراطية في القرن الماضي فإن ألدّ
أعدائها في هذا القرن هي الليبرالية المتوحشة.
***
1-P.W. Singer
Corporate warriors The rise
of the privatized military industry